لقد رأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ النكبة واحتلال فلسطين إلى يومنا هذا، الضرورة القصوى في الربط بين العسكري والسياسي. ففي آب 1948، عمّم رئيس أركان الجيش، يعكوف دوري، أمراً يعلم فيه أقسام الجيش عن قيام وحدة ”الأقليّات“. قبل أن يشغل دوري ذلك المنصب، كان ولسنوات رئيس فرق ”الهاجانا“ الصهيونية. وأشار دوري في الأمر الذي عمّمه إلى أن قائد وحدة ”الأقليات“ يعيّن بالتنسيق مع القسم السياسي لوزارة الخارجية وينسق معها في كل مهمة ذات أوجه سياسية مناطة به. وجرى تمرير قانون التجنيد الإلزامي عام 1949 وكان آخر تعديل له عام 1986. وينص القانون على أن جميع الإسرائيليين الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً يجب أن يجندوا، إلا إذا تم إعفاؤهم. ويستثنى من القانون اليهود الذين يدرسون في المعاهد الدينية (حريديم) والسيدات المتدينات، إضافة إلى الفلسطينيين. وفي عام 1956، صدر قانون يلزم دروز فلسطين بالخدمة العسكرية. وقد عارضت هذا القانون قيادات درزية عديدة وتخاذلت أخرى. لكن في خلاصة الأمر واجه هذا القانون في حينه معارضة بين الفلسطينيين الدروز أنفسهم. واستخدمت السلطات الإسرائيلية أساليب عدة منها الملاحقة والتهديد بحبس أهالي الفارين من الخدمة وما إلى ذلك بغية إخضاعهم للتجنيد. (1)
لا توجد أرقام رسمية وموثوقة عن نسبة الرافضين للتجنيد الإجباري بين الفلسطينيين الدروز. تدعي السلطات الإسرائيلية أن هذه النسبة منخفضة ولكن دون أن تعطي أي برهان على ذلك. على أرض الواقع، يلاحظ النشطاء في هذا المجال، أن عدد الشباب الرافض للتجنيد الإجباري يزداد. وفي الآونة الأخيرة إزداد عدد أولئك الذين يصرّحون برفضهم علناً. وهذا الرفض، سواء كان علنياً أم لا، يعرض صاحبه للسجن ولعقوبات أخرى.(2)
تسلط هذه المقابلة مع ميسان حمدان* الضوء على مبادرة شابة وجريئة ضد التجنيد الإجباري للفلسطينيين الدروز بعد مبادرات أخرى سابقة لم تلق نفس الزخم الإعلامي.
ابتسام عازم: كيف تأسست مجموعة ”مناهضة التجنيد الإجباري“ المفروض على الفلسطينيين الدروز؟
ميسان حمدان: أولًا سأبدأ بأننا أطلقنا مؤخراً اسماً على الحراك: "ارفُض، شعبك يحميك". بدأتُ شخصيًا بالتنسيق والانضمام للاجتماعات قبل حوالي أربع سنوات، وكانت معظم الاجتماعات تقتصر على الحوار، بعد ذلك ساهمت في بناء مجموعة أطلقنا عليها اسم مجموعة "الحوار" بالتعاون مع جمعية الشباب العرب- ”بلدنا“، بمرافقة توجيه مهني، لمدة سنة ونصف، ضمّت المجموعة شبابًا وشابات دروزًا وغير دروز من منطلق أن قضية التجنيد الإجباري هي قضية الشعب الفلسطيني عامةً ولا تقتصر على العرب الدروز فقط، كما أرادت السياسات الإسرائيلية لنا أن نراها.
وكان الهدف من اللقاءات بناء صيغة واضحة لنشاط وعمل المجموعة، بالإضافة إلى الاستشارة التنظيمية، ومن ثمّ شاركتُ في ثلاثة أيّام دراسية في واحة السلام مع جزء من مجموعة الحوار وجزء آخر كان قد انضمّ حديثًا وقتها، كان الهدف بناء شراكات مع "بروفايل جديد" بكل ما يتعلق بمرافقة الشباب الرافضين.
في شهر نيسان 2013، شارك ثمانية أشخاص من المجموعة في تدريب "تنظيم مجتمعي" أقيم في رام االله من قبل مؤسسة ”أهل“ الأردنية وبالتعاون مع جمعية الشباب العرب- ”بلدنا“، لمدة ثلاثة أيام، بمشاركة عدّة حملات، كمقاطعة البضائع الإسرائيلية، وموضوع الأسرى السياسيين، وموضوع مناهضة التحرش الجنسي، وحملتنا، مناهضة التجنيد الإجباري. ومن خلال التدريب، عملنا على بناء رسم بياني لنشاط المجموعة، وتثبيت الفريق القيادي لها.
في شهر حزيران 2013، شاركت المجموعة في المؤتمر الرابع لحركة المقاطعة في جامعة بيت لحم، وكانت لنا كلمة عن المجموعة. في شهر أيلول 2013، عُيّنتُ كمركّزة للمجموعة، وأعمل ضمن وظيفة من قبل جمعية AFSC حتى شهر شباط 2014. نحن نشكّل، ومن خلال نشاط المجموعة، قاعدة في كل قرية وقرية، تُمكّن الشباب من التوجه إلينا عند اتخاذ قرارهم بالرّفض، وبعد ذلك أقوم بمواكبتهم ومرافقتهم حتى الحصول على الإعفاء. في شهر كانون الأول الجاري، كانت لنا مشاركة في ذكرى الانطلاقة الرابعة في قرية النبي صالح، وكلمة عن المجموعة في المهرجان. تأسست المجموعة بعد أن بلغ السيل الزبى، هناك صورة قائمة عن الفلسطينيين الدروز لا يمكن تغييرها إلا بالعمل على تسليط الضوء على نشاطات المجموعة إعلاميًا التي غُيّبت وتُغيّب يوميًا.
[فيديو حملة ”ارفض، شعبك يحميك“]
ابتسام عازم: انت ذكرت انك مع المجموعة ترافقين الشباب الذين يرفضون التجنيد ويسجنون؟ ماذا يعني هذا بالضبط وما هي المشاكل التي تواجه هذا الشباب؟
ميسان حمدان: طبعًا احتضان واحتواء الحراك للرافضين، أو حتى على مستوى الأفراد، يرفع كثيرًا من معنويات الرافض، لكن طبعًا لا بد من المواجهات داخل القرى، فالمجتمع لا يزال يعاني من أسرلة إلى حدٍّ ما، وهذا الجزء الذي يجب أن لا نغضّ الطرف عنه في عملنا، فالتوعية هي خطوتنا الأولى. النهج القائم في القرى هو الالتحاق بصفوف الجيش، إذ أن هذا ما تربّي عليه مدارس القرى والبيوت، ولا شك أن هذه إحدى نتائج السياسات الإسرائيلية التي خضعنا لها كل هذه المدة، ولا شك أن الرافض يعاني من ضغوطات نفسية، إلا أن مؤخّرًا صوتنا يعلو أكثر وأكثر.
ابتسام عازم: ما هي المشاريع الإضافية التي يقوم بها الحراك؟
ميسان حمدان: تعمل المجموعة على مرافقة الشباب الرافضين وتوسيع قاعدة الرافضين والمناهضين/ات، كما وتعمل المجموعة على الجانب الإعلامي، من خلال إصدار أغاني أو أفلام قصيرة توعوية، وتركّز أيضًا على موضوع المواكبة والنشر الإعلامي لقضايا الرافضين بشكل مُعلن، من أجل رفع القضية لمستوى الرأي العام بشكل دوليّ، وليس محليًا فقط.
كما وتعمل المجموعة على موضوع التواصل الفلسطيني الفلسطيني، فمؤخّرًا اجتمعت مجموعتنا بمجموعة أخرى في قرية النبي صالح، ونحاول معًا تنظيم نشاطات مشتركة سنعلن عنها قريبًا. نحاول بناء جسرًا للتواصل مع مجموعات أخرى في مناطق مختلفة، من أجل التأكيد على وحدة الموقف والقضية، وكسر الحواجز التي وضعها البعض لنا، كمشهد "شو بتعرفوا عن الفلسطينيين الدروز؟"، "الجندي الدرزي اللي واقف ع الحاجز، ألئم من اليهودي!"، أنا لا ألغي هذا المشهد القائم، فهو نتيجة لسياسة دامت 65 سنة وقد نجحت ببناء الشرخ الثقافي والاجتماعي بين أبناء الشعب الواحد، لكن من الجهة الأخرى، أنا لا ألغي مشاهد أخرى، كقصص الأفراد المتواجدين في المجموعة الذين يعانون من التعتيم الإعلامي.
ابتسام عازم: في السنة الأخيرة كانت هناك محاولات قوية تركز على تجنيد الفلسطينيين المسيحيين ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي، ومحاولات فصلهم عن بقية أبناء شعبهم الفلسطيني كما حدث مع الفلسطينيين الدروز أو قسم من القبائل البدوية، هل يوجد تنسيق ما بين الجمعيات أو المؤسسات المختلفة التي تحارب بالنهاية نفس السياسة؟
ميسان حمدان: طبعًا هناك تنسيق بين الجمعيات وبين الأحزاب والمؤسسات في المجتمع المدني، وهذا ما نعمل عليه مؤخّرًا، نجتمع من أجل صياغة خطاب موحَّد وموحِّد يرفض جميع أشكال التجنيد، ونستخدم وضع الشاب الدرزي الحالي كنموذج لما قد يحصل مع أي شاب فلسطيني ممكن أن يتجند، موقنين أن المؤسسة الإسرائيلية لا فرق لديها بين الأديان والمذاهب المختلفة، فمخطّطاتها ضدّنا كفلسطينيين واحدة. ونأخذ كمثال وضع الشاب الدرزي الخادم في الجيش، الذي وصل إلى درجة أسرلة عميقة، ينفصل تمامًا عن شعبه الفلسطيني وقوميته العربية نهجًا، لكنّه يتعرّض لأوامر هدم ومصادرة أرضه تمامًا كأي فلسطيني عربي.
ابتسام عازم: فكرة أغنية ”قصتنا“ تلخص الكثير من معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48، كيف ولدت هذه الفكرة ولماذا؟
ميسان حمدان: قصّتنا، هي إحدى التجارب التي لن أنساها يومًا. كنّا في صدد إطلاق مشروع ما بإسم المجموعة، وكان الحديث عن أغنية نقدمها بصيغة "راب"، ومنذ بداية الحديث عن المشروع بحثنا عن مؤدٍ\\مؤدية للأغنية وملحّن\\ة، وأخذت الموضوع على مسؤوليتي في كتابة الكلمات لأن كان هناك الكثير ما يُكتب.
كنتُ في الحافلة في الطريق من حيفا إلى قريتي عسفيا، وأمامي ساعة من الوقت، أمسكت بالهاتف وبدأت بتدوين الكلمات، وحين وصلت إلى القرية، كنت قد انتهيت من كتابة الكلمات، كان ذلك في شهر تموز في السنة الجارية، واستمر البحث عن ملحّن\\ة ومؤدٍّ\\مؤدية حتى تشرين الثاني، فأيقنت أن عليّ فعل ذلك بنفسي، بحثت عن لحن، وذهبت لتسجيل الأغنية، بكل بساطة. الكلمات لم تُكتب من عبث، بل هي نتيجة لما يتولّد في داخلي من أفكار يوميًا، أحيانًا أنجح بالإفصاح عنها وأحيانًا لا. كنت سعيدة أنه كان بإمكاني التعبير عنها من خلال الأغنية.
[أغنية ”قصتنا“]
ابتسام عازم: ”مدونتي“ هي مشاركة أخرى لك ضمن مدونة متلفزة لـ ”إحنا تي. في“ تتحدثين فيها عن وعيك بالمكونات المختلفة لهويتك، ومن ضمنها الوعي النسوي والوعي الفلسطيني. هل لك أن تحدثينا أكثر عن هذا؟
ميسان حمدان: السؤال المضحك المبكي.. لماذا أنا بحاجة إلى وعي لدي بهويتي الفلسطينية؟ جميعنا نعلم أن ما يطلقون عليه اسم "المجتمع الدرزي" هو مجتمع منغلق على نفسه بالمفهوم العام، لا يقبل الجديد، وذلك من محورين: الديني والسياسي، لن أتحدث عن الديني لأنني لست متدينة، لكن بالنسبة لدولة الاحتلال لا فرق بينهما، فهي تستغل الأول من أجل تحصيل الثاني، وتستغل فكرة أن المذهب الدرزي هو مذهب سري في سياستها "فرق تسد" لبناء الشرخ بين الدروز وسائر شعبهم الفلسطيني، كما وتفعل ذلك من خلال فرض التجنيد الإجباري عليهم دون غيرهم، وتخصيص منهاج تدريسي خاص بهم منفصل تمامًا عن الذي يُدرّس في سائر المدارس العربية.
ولدتُ في بيتٍ متحرّر، وطنيّ، لكني في ذات الوقت ترعرعت في البيئة "الدرزية" وتعلّمت في مدارس القرية، ولي أصدقاء مؤسرلون، لكن هذا لم يمنعني أن أتساءل وأبحث دومًا عن الأصل والحقائق والتاريخ، وما واجهته من إهانات ككلمة إرهابية وغيرها من قبل طلاب وإدارة المدرسة لمجرّد ارتدائي للكوفية الفلسطينية أثناء العدوان على غزّة لم يمنع مني الاستمرار في طريق التوعية لنفسي ولغيري من الأشخاص، فقد تجاوزت الآن مرحلة الهجوم، ولدي رد فعل عكسي، أستمدّ قوتي من هجومهم انطلاقًا من مقولة غاندي: "في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك ثم تنتصر. حتّى لو كان النضال فرديًا أحيانًا، يجب أن لا يندثر، فكلّ نضال ثمن، ووراء كل ثمنٍ فكرة لا يجب التخلي عنها أبدًا إذا كنّا نؤمن بصحّتها.
نعم، حين "خرجت" من القوقعة الدرزية ورأيت العالم الأوسع، وهنا أقصد خرجت منها فكرًا ورؤية، هناك من احتضنني، وهناك من هاجمني، وهناك من خوّنني، لكنني أعي تمامًا أنني لست بحاجة لإثبات ماهيّتي لأحد، فهويّتي وانتمائي غير متعلقين بموقف فرد\\مذهب\\حزب أو أي دائرة أخرى.
بالنسبة للهوية النسوية، أعتقد أنّ وجودها أمر بديهيّ، لكنني أدرك مدى صعوبة كوني فتاة فلسطينية وعربية ودرزية في آن واحد ومدى صعوبة التركيبة في واقع كواقعنا، لكن من يرفض الظلم يرفضه على أشكاله ولا "ينقي عدس"، لذلك، إن كان تحرير الأرض سيتحقق، يجب أن نحرّر الفكر أولًا، يجب أن نرى أن القضية الفلسطينية لا تتجزأ، يجب أن نرى أن التجنيد الإجباري لا يتجزأ، يجب أن نرى أن المساواة الجندرية لا تتجزأ، وكما أن الظلم لا يتجزأ فالحريّة لا تتجزأ أيضًا.
[”مدونتي“ تلفزيون "إحنا"]
* ميسان حمدان ناشطة سياسية ونسوية، عضو إدارة في جمعية ”بلدنا“، مركّزة مجموعة مناهضة الخدمة الإجبارية المفروضة على الشباب العرب الدروز. عمرها 22 عاماً، من قرية عسفيا في جبل الكرمل الفلسطيني. وتدرس حالياً في جامعة حيفا اللغة العربية وآدابها ودراسات شرق آسيا.
(1): أنظر مقال سعيد نفاع في هذا الصدد.
(2): أنظر مقال ”فلسطينيون في جيش الاحتلال الإسرائيلي“ حول الموضوع واستغلال الإعلام الإسرائيلي له.